رواية.. نزار قباني و كوخ العائله
في احد غابات الارض الغامضه ذات الاشجار المؤذنه ، تمشى اخوين من اصحاب الرتب العاليه للصيد بجانب بعضهم ، علهم يقعون على طير تدرج او حمامٍ بري ، حاملين بنادقهم على كتوفهم تتأرجح مع المشي. وكلبٌ لهم يهرول امامهم و يتشمم وكان واحداً منهم قد امسك بيد حزام البندقيه لكي لا تقع من على كتفه ، وباليد الاخرى اتكأ بعد على كتف صاحبه الذي يحكي له مما جعل البنادق كل منهما تضرب اختها ، وبينما هم يتكاسلون بالمشي ، والاعشاب تتأوه بصوت حفيف ثوب تحت اقدامهم الداهسه ، والاغصان الواقعه تتكسر فداءً حتى لا تكون عائقاً للمارين ، والجو مغرب ينذر بعاصفه مباغته . تكلم احد الرجلين وهو الذي كان يحكي :
اتذكر ذلك الجزء من رواية القوزاق لتولستوي ؟ هههه لقد اضحكني واسعدني ، … ذلك الجزء ، حين خرج البطل بصحبة المسن للصيد ..
اي جزء ؟ لقد كان هناك صيد كثير في الروايه ، اظن انه من الجدير ان يكون اسمها الصيد في القوزاق ، او غاراميات وصيد
دع عنك هذا ، الجزء الجميل ، عندما كان إروشكا المسن خارجاً
مع اولينين يصطادون ، وقد اخبر إروشكا صاحبه عن ماضيه وكيف كان عاشقاً وعندما دخل بيت حبيبته من نافذة غرفتها
وامها نائمه بجانبها وايضاً كيف وضع طاقيته على فمها لكي لا تصرخ وتعرفت عليه منها، وكان يسرد الحكايه بحميميه وشوق لأيام شبابه وبعدها
رد عليه اولينين قائلاً والان ؟
فقال إروشكا :
الان نتبع الكلب ، فنقع على تدرج ، فمتى حطَّ على شجره كان عليك أن تطلق النار
ضحك صاحبه ضحكة صافيه من كل مجاملات ، واكد انه ذكر هذا الجزء من القصه ، لكنه بالطبع لم يذكر ، انما هو لم يرد ان يهدم كل الحكايه وحماس صاحبه المتشوق لأخبار القصه في الوقت المناسب . اخذا الاثنان وضعية الاستعداد ، فقد حط طائر تدرج برأسه الاحمر على غصن شجره ، وآخر على الارض يتمخطر ، وكأن شخصاً مخفياً يضرب قفاه مع كل خطوه ، توقف الكلب وهدأ ، وانزل الرجلان البنادق ، واشار صاحب القوزاق انه سيتولى امر الذي في الشجره ، وامر صاحبه ان يهتم بالثاني ، واخيراً ، نفس عميق ، كتم انفاس متوتره ، واطلاق نار ..
يتمتع الرجل صاحب القصه بخلفية ادبيه ثقافيه رهيبه ، ليست منحصره على مقتطفات و اقتباسات ، بل هو فعلاً يعرف الكثير ، اتعرفون اؤلائك الذين يعرفون كل شيء وكل شخص ؟ اي انك يمكنك ان تأتي بذكر شخص ما عرضاً في وسط حديث ، فيسكتك ويسرد لك الرجل من اعلى سلاله حتى اخمصها ، ومن تزوج واين هو موظف ، واين واين ، انه من هذا النوع . كان كلاً من زوجة كيفانش المثقف
وابنته في الكوخ بانتظار عودتهما ، يقضيان الوقت في الجدال حول القيل والقال ، وعن فلانةً و علانه ، ويقاطع حديث هذه جذبها لأبنها لكي لا يكسر شيئاً ، والاخرى بسبب ابنتها الرضيعه كثيرة البكاء ، ومن سوء الحظ ان زوج الفتاة لم يتمكن من الحظور للرحله.
من الجيد انهم توقفوا عن قص القصص التي حدثت
لفلان وماذا فعلت فلانه ، وإلا لما توقفت انا عن سرد هذه القصه حتى اموت ، بل سأستمر بالسرد على ملائكة القبر .
قالت الابنه وهي تهز ابنتها الرضيعه :
لقد تأخروا كثيراً صحيح ؟ ، لقد غابت الشمس
لم يكن بال امها عندها ابداً ، كان مشغولاً في انحاء الكوخ شبراً شبراً ، عند المكتبه ، وعند طاولة الطعام وعند النار .
لقد تأخروا اجل اجل و الطفل ابن الكلب هذا قد اخرج عقلي واخذ يدحرجه معه … يا ولد .. تعال الى هنا ، إن لمست شيئاً فسوف يلمس اباك عضمك .. تعال
دعيه يا امي هو ذا مزاج استفزازي لن يفعل شيئاً
تضاحك الطفل ووضع كفيه بجانب رأسه وبدأ يهزها
مخرجاً لسانه يلوح به تحت انفه .
انظري ماذا يفعل ، الم اربيك ؟ تعال .. لن يفعل شيئاً؟ لو انه كوخنا لا بأس لكن…
توقفت الام عن الكلام و كف الولد عن اللعب عندما فتح اباه الباب بدفعة بقدمه ، فهو يحمل مايجعله يعجز عن فتحه بيديه ، القى السلام بصوته الرزين القوي . دخل الاب وخلفه اخاه الى كوخ بسيط ، فأنت عندما تدخل ترى عن يسارك ارائك مقابله بعضها تتوسطها طاولة تعبر عن صالون متواضع ، وعن يمينك طاولة طعام طويله ذات ثمان كراسٍ وخلفها مطبخ بسيط ، وامامك مباشرةً مشب النار واحطاب مكدسه بجانبه ، اما الجدار الايسر للكوخ فهو مكتبه بسيطه لكنها عظيمه في عيني صاحبها ، فهو استأجر هذا الركن من اخيه لكي يضع به كتبه النادره جداً ، التي كان يعبث بها الطفل.
فهو عندما رأى اباه قد عاد ، وقد اعتلت على وجهه ملامح الصرامه والهيبه ، ركض بتجاه امه واختبأ خلفها بعد ان سمع صوت سلام ابيه الرهيب ، لاحظ الاب ذلك لكنه استعمى مستغبياً ، حتى انه التفت الى صاحبه خلفه لكي يعطيه سلاحه عله يري ابنه انه لم يراه يعق بوالدته ، لانه يعلم ان الولد ورث حب الكتب منه ولن يقترب من المكتبه لنية خبيثه ، دخلا الرجلين ونزعا عنهم الاحذيه والمعاطف . وعلق العم اينجن السلاحان واخذ من اخاه الطيور واتجه الى طاولة المطبخ لسلخهما و تنظيفهما . جلس كيفانش بجانب زوجته وقبل رأسها ، وقال ماهذه الاصوات ؟ نسمعها من الخارج وسأل عن الاحوال مخاطباً لا احد كأنه يكلم الجو وهو يفرك يديه على فخذيه من دون ان ينتظر الجواب ، فردوا عليه بحرج ان الاوضاع ممتازه
يلديز بنيتي ، اعطيني حفيدتي الحلوه واذهبي وساعدي عمك هيا ياوردتي
امرك يا ماما قالت الابنه هذا ونهضت بعد ان اعطت امها رضيعتها وانحنت لوالدها وامها واتجهت بخطى مسرعه الى عمها مكرهه ، لانها لا تحب قدماها هجران ملمس القماش التركي المفروش في الصالون الصغير و المشي على الارضيه الخشبيه فهي شديدة البروده .
كيف حالكِ يا جميله ، بني تعال الى هنا تعال ، مابك مُحرج ؟
وجدت لك شيئاً ، تعال .
التفت الام الى ابنها خلفها وامرته بصوت لطيف لكن بعيون آكله :
بني ، هيا اخرج الى اباك ، الى تسمع انه يريد ان يريك شيئاً ؟
صمتت لوهلة ثم همست له :
لقد جلب لك هديتك .. هيا .
لحظة سماع الابن ذا الثمان سنين هذا ، خرج نصفه ممسكاً بشال امه حتى كاد ينزعه عنها ، مد له اباه كتاباً ذا غلاف مقوى لونه احمر ، باهت قليلاً ، ومتشقق الاطراف ، لما رأى الولد الكتاب التمعت عيناه حتى كادت تخرج لتقبض على الكتاب بدلاً من يديه ، ابتهج وابتسم ، واخذ الكتاب بتردد شديد والقى عليه نظره للحظه ، ثم رفع رأسه وانقض على والده يضمه والكتاب لا يزال بحوزته ولما ابتعد عنه قال اباه بفرح شديد :
هيا هيا افتحه لنرى عن ماذا يحكي ..في اللحظة التي تقافزت يلديز على الارضيه الخشبيه ، وعندما وصلت الى عمها وقبلت شفاها ثم جبينها احدى يديه ، اخذت الطير الاخر ، وسكين السلخ وبدأت بالعمل
اهلاً يا حلوتي … كيف حالك … لن تصدقي ماذا حدث لنا بالخارج … لم تجيب الفتاة على عمها ، بل استمرت بالسلخ بشكل عصبي
يلديز يا ابنتي ، ماذا بك ؟
لا ياعم ، لاشيء …. لا تقلق
هل لان محمد لم يأت ؟ لا بأس يابنيه
……
حسناً كما تريدين ، لكن اهدئي قبل ان تسلخي نفسك بدلاً من الطائر .
ماقد ضايق الفتاة يلديز هو فعلاً عدم حضور زوجها ، لكن هذا شيءٌ تعودت عليه من زمان ، فهو ليس ماشغل عقلها الان ، إنما هناك شيءٌ ضايقها منذ البدايه ، منذ بدأت الرحله .
ياعم ..
افندم
لم لم يحضر ابي شيئاً لإيزل ؟ على الاقل لو وردة او هديه بسيطه ، هو لا يستحق ان ….
هيه بنتي ، هلا تسمعيني للحظه؟ .. لقد جلب له هديه
حقاً ؟
اجل ، لو انك جعلتيني اخبرك قبل قليل ماذا حدث بالخارج لما كنت مستائةً الان ، لكن … فات الاوان .
ماذا اخبرني …
لا لااا … ههاي.. كان يجب عليك احترام عمك العجوز وعدم تجاهله اذا تكلم ..
هكذا اذاً ؟
هكذا هكذا .
قال العم ذلك رافعاً صوته على الفتاة .
حسناً حسناً ، سأذهب الان الان .. واخبر هذا الولد الصغير ان اباه لم يحضر له هديه في يوم ميلاده هذا ، وانكم خرجتم ناسين الموضوع وصدف ان جلبتم له شيء … يعجبك هذا ؟
كان العم يتجاهل ابنة اخيه عمداً ، ويتصنع الانشغال في السلخ ، بل انه انتهى من سلخ الجلد ، ورفعه امام الفتاة ليريها انه انتهى وهي بطيئه الى الان لم تسلخ الرأس ، بدأت الفتاة تنتظر بفارغ الصبر وهي تلحق عمها بعينها حين وضع الجلد على الطاوله ، واخذ يشق البطن ويخرج الامعاء ..
ماذا ؟
هل ستقول لي ام لا ؟
اقول ماذا ؟
عمي ! لا تستغبي ..
استغبي ؟ انا عمك ياقطعة ال… لن اخبرك
حسناً اسفه ، انا اسفه ..
وايضاً ؟
ماذا ايضاً ؟ اسفه ماذا تريد ؟
هل ستتجاهليني مرةً اخرى ؟
لا لا .. اعدك اجل لا حاجة لان تلح ان اعد ، اعدك اعدك هيا قلي ماذا حدث ..
نظر العم وسط عيني ابنة اخيه وزم شفتيه مغتاضاً ، ثم وضع السكين والطائر بشده على الطاوله واخذ ينشف يديه بسترة الطبخ ، وجاء لينطق بما حدث ويقصه ، لكنه توقف لصوت سمعه هو والفتاة ، كان الاب يركض خلف ابنه ويصيح عليه ان يعيد كتاباً كان بيديه ، والام واقفه لا تعلم ماذا تفعل ، فهي تركض فجأه ثم تتوقف ثم تمشي ثم تتوقف ولا تعلم من تلحق ، والاب كان يقول صائحاً :
يا ولد ! ارجوك لا تفعل به شيئاً تعال ، ليس هذا امزح معك ليس هذا ما جلبته لك .
اتجه الطفل بتجاه المطبخ ، وحين مر من عند عمه ، امسك به العم ورفعه رفعةً واحده من تحت ابطيه ، وثبته فوق الطاوله وتحديداً بجانب الطائر المسلوخ ، وبدأ الفتى يتفلت من بين يدي عمه ، حتى انه لطمه بالكتاب ،
ياخي هل كل ابنائك هكذا ؟ لا تنجب بالله عليك ! هذا يده طويله والثانيه لسانها يلعقك وانت واقف
حينها اتى الاب وجر الكتاب من بين يدي الطفل ، واعطاهم ظهره واتجه الى طاولة الطعام وجلس على احد كراسيها ، وفتح الكتاب وهو يلهث ككلب لم يتوقف طوال حياته ، واخيراً توقف ايزل عن الحركه ووضع ساعديه على صدره وقد ابتلعه الغضب و الزعل ومد شفاته السفلى كأنها تورمت فجأة
اخي كيفانش ، ما الذي حدث ؟ مابك فجأة ؟
ردت زوجة كيفانش بصوت خائف متهدج ، وهي تمسك مخده الاريكه بين يديها ، يد ضمت بها المخده والاخرى امسكت رأس السحاب فهي تفتحه قليلاً وتغلقه :
لا اعلم ، قال للولد ان يفتح الكتاب لنرى محتواه ، وعندما رأى المحتوى طار عقله ، وقال للولد ان يسلم له الكتاب لانه ليس له ، وانت تعرف ايزل ، عاند اباه …
انه لا يحبني ، يريد الكتاب لنفسه ، كلكم لا تحبوني ..
اتى صوت الفتى من فوق طاولة التقطيع باكياً و وجهه مدفوناً بين يديه ، فقتربت منه اخته وضمته واخذت تهديه ، وتختلس النظر الى اباها الذي قد انغمس في الكتاب ولا يعلم ما الذي حوله .. فقالت واخاها بين يديها :
بابا ماذا بك الن تخبرنا ماذا في الكتاب ؟ الذي جعل ابنك يكرهك ؟
يلديز ! انه اباك ! هذبي كلامك !
اسفه ماما
اتجه العم الى اخاه ، والقى نظرة من فوقه على الكتاب ، فوجد انه يوميات ، وكان التاريخ الذي مكتوب في الصفحه هو 1932 ، وهو مقدمة الكتاب ، اي ان اليوميات بدأت قبل اربعه وثمانين سنه تقريباً ،نظر كيفاتش الى وجه اخاه فوقه ، فوجد ان فاه قد سقط ، وكأنه لم يعد له فكٌ يمسك به ، والحق ان الكتاب فعلاً يبدو قديماً جداً ، و مصنوع يدوياً ، وورقه بني باهت غامق كأن شاياً صُب عليه ونشف ، والكلام بخط اليد :
اصبر يا اخي ، لن تكون قادراً على اغلاق فمك بعد ان ترى هذا . قال كيفانش ذلك بصوت مليء باللذه و نشوة تفوق المضاجعة نهار العيد ، ثم اغلق الكتاب كله ، وعاد وفتح الغلاف فقط ليبرز العنوان لأخيه :