قصص قصيرة

قصة قصيرة.. إشتياق موفق خليل

في إحدى ايام نوفمبر الباردة، وفي تلك الليلة المتشحة بالحزن، والغارقة بالظلام الدامس، كنتُ أتلمسُ صندوقَ رسائلكِ على ضوء شمعة مرتجف، ما زالت رسائلكِ مبتلة بالدمع ومازالت حروفُكِ هي الاخرى يقطرُ منها الخوف.

رسائلكِ أمامي يا ماريز والذكريات بدأت تنهالُ عليَّ كغيوم سود، كانَ اللقاءُ الأول على قارعة الطريق، نظرات متبادلة توحي بالإعجاب والاحترام، بعدها كان الكلام، كنتِ اكثر شجاعة منّي، بادرتِ بالسلام، وصلني صوتكِ أجمل من زقزقة العصافير، ذكرتِ اسمي فكان يسيلُ كالعسل بين شفتيكِ، حاولتُ أن يكون ردي مثل بهاء صوتكِ، الا أنّ الكلمات تعثرت على لساني، وانفلتت عبارة خجولة:

«صباح الخير يا ماريز».

أشعرُ بالخجل منكِ وأنا أقلبُ رسائلكِ الآن، ولا بدّ من مصارحتكِ في هذه اللحظة حول مراقبتي لكِ وأنتِ تنشرين الملابسَ على حبل الغسيل، ولم اعرف أنّ أمي كانت تراقبني، وعندما نزلتُ من سطح الدار، صاحت بي دون مقدمات:

أما تخجل يا أيميش مما تفعله؟

شعرتُ بالندم ومن يومها لم اصعد الى سطح الدار، قمتُ بعدها بكتابة رسالة لكِ ضمنتها مشاعري تجاهكِ، وأقسمتُ لكِ أن أكون وفيّا إذا كنت تحبينني.

بعد يومٍ وصلت رسالتكِ بالموافقة، شعرتُ بأنّ الحياة انقلبت الى رقصة طفولية رائعة، تحولت الدنيا الى لحنٍ حافلٍ بالأفراح والمسرات، وعاهدتُ نفسي على النجاح، وتخرجنا معاً بعد كفاح وصبر، والتقينا يا ماريز، كنّا خائفيْن من مراقبة الآخرين لنا، كنتِ شجاعة وكنتُ شجاعاً واتخذنا قراراً في منتهىٰ الصواب، وقررتُ مفاتحة أمي بالأمر، وهذا ما حصل يا اميرتي، ففي ساعة متأخرة من الليل جلستُ مع أمي، عرضتُ عليها ما اتفقنا عليه، الفرحُ الذي ارتسمَ على ملامحها شجعني على المواصلة، وعند الانتهاء سمعتها تقول بصوت الأم الرؤوم:

– مبارك لك الاختيار يا ولدي أيميش.

هكذا توّجت الفرحةُ في اليوم التالي، وزيارة أمي لكم وعند عودتها فرحة، اصبح قلبي وقتها وطناً ببراءة الاطفال وأحلام الصبايا، رحماً خصبا لكل الامنيات الجميلة، انا الخجول بطبعي انقلبتُ الى طائرٍ أحلقُ فوق مرافئ السعادة والغبطة والحبور.

كان كل شيء يسير على ما يرام، تمت الموافقة وحصلَ اللقاء، وفي يوم زفافنا رقصنا رقصتنا المفضلة (السلو) على أنغام الفنان عمرو دياب، وفي غفلة من نظرات الجميع طبعت على شفتيكِ قبلة الوفاء، لم تكن قبلة عابرة يا ماريز كانت التقاء الحلم بالحلم وخلاصة الامنيات التي كانت تختمر في صدري، وتحقق الهدف الذي كنت اسعى اليه، بعد انتظارٍ طويل.

لكنني ما كنت احسب ان القدر يتربص بنا بعد ان انحرفت بوصلة الزمن الغادر نحونا، وانقلبت الامور، وتسارعت الاحداث وخرج من المجهول ما لم يكن في الحسبان، كانت البندقية الغادرة تطلق رصاصها الغادر بأيدي من جبلت رؤوسهم على الغدر «داعش»، كان هجوماً لا يعرف سوىٰ الحقد والضغينة على كل ما هو جميل، كانت الرصاصة التي استقرت في رأسكِ محشوة بالخسة والنذالة والتخلف.

في تلك اللحظة التي وقع نظري عليكِ لم أتذكر ما حدث سوىٰ انني راقد على فراش المرض بعد اغماء استمر طويلاً، وأنت رحلتِ الى العالم الآخر.

خمس سنوات مرّت على تلك الليلة الطافية على بحر الخوف والألم، ومع طيلة الفترة لا أحمل سوىٰ فجيعتي، وهذه الرسائل التي أفتحها كل ليلة فهي تعزيتي الوحيدة.

خمس سنوات، وما زلتُ وفيّا لكِ أيتها الحبيبة الرائعة الجميلة.

وداعاً أيتها السنبلة المليئة بالوفاء في زمن التصحر والجفاف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى